ومنهم من يقول: إن النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خاطبهم معه أو صمته، وأنّ الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته ، مثل يا محمد أو يا أبا القاسم.
وقد أجمل النيسابوري رحمه الله تعالى في ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً:
" والجمهور على أن بين النهيين فرقاً ثم اختلفوا فقيل:
الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه بما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة. وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال : يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله.
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويمييز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب.
والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بدون شعور صاحبه أخذاً من قوله تعالى:
{.. أّنْ تَحْبَطَ أَعْمِالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}.
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير- رحمه الله حيث يقول:
" والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه - عليه الصلاة والسلام -يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عما هو مظنّة لأذى النبي- صلى الله عليه وسلم - سواء وجد هذا المعنى أو لا، حمايةً للذريعة وحسماً للمادة.
وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك:{... وَتَحْسَبُونَهُ هَيَّناً وَهوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ}.
وقوله صلى الله عليه وسلم" إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم"، صحيح البخاري.
وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار: منها قول أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله عز وجل "، أورده الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
هكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون وتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فخافوه واتقوه:
{إنَّ الذينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِيْنَ امتَحَنَ اللهُ قُلوبَهُمْ للِتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3].
هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمَا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً سواءً بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.
يقول ابن العربي رحمه الله تعالى:
" حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرِيء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:
{وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا ...} [الأعراف: 204].
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثلما القرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه، والله أعلم. ويُراعى هذا الأدب - وهو عدم رفع الصوت - أيضا في مسجده صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: " كنتُ قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتِني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، صحيح البخاري.
كما أن هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم ، فلا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنيُّ بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: {النَّبيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...} [الأحزاب: 6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سيده.
وفي مجال التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهم لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4] .
عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه ، فقال: يا محمد إن حمدي زين وانّ ذمي شين"، فقال الله تعالى: {إنَّ الَّذِيْنَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.
وقد تضمنت الآية أمرين :
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
و في ذلك قال الله عز وجل: {وّلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: لكان في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة.
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً ، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خالٍ من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادى بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله ، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم . كما ينادي الناس بعضهم بعضاً.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...} [النور: 63].
ومما تدل عليه هذه الآية أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم.
يجب على المسلم أن يدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، وأن يناديه صلى الله عليه وسلم نداءً يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبيالله ، اقتداءً بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرها من الصفات الثابتة له في القرآن الكريم.
كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا...} [الأحزاب: 28] و {يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً.. } و {يَا أّيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ }.
مع أنه سبحانه قد قال:
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ..} [البقرة: 35].
{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ...} [هود: 46].
{ يَا إبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ...} [هود: 76].
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ ..} [ص: 26].
لزوم محبته صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [ التوبة: 24] .
فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحُجَّة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع الله تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوَعَّدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. [التوبة: 24]. ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضَلّ ولم يهده الله سبحانه وتعالى.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار "، رواه مسلم ونسائي.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه البخاري ومسلم.
حب الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي.
وفي الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
أما محبته صلى الله عليه وسلم فهي فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله:" أحب أليه".
وفي حديث عمر: " أنت أحبُّ إليّ يا رسول الله من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تكون مؤمناً حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب، لأنت أحبُ إلىَّ من نفسي التي بين جنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عُمُر تم إيمانك "، أخرجه البخاري.
قال القاضي عياض:
" اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال ، فقال سفيان : " المحبة اتِّباع الرسول، كأنه التفت إلى قوله تعالى: {قُل إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ الله فاَتَّبعُونِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ..} [آل عمران: 31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته ، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب ، وقال آخر إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحُبِّ ما أحبَّ وبِكُرهِ ما كَرِهَ، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ".
ويقول أبو عبد الله المحاسبي:
" والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلا بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية.
" وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما يميل كل طبع سليم إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السِّيَر الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جُبِلَت النفوس على حب من أحسن إليها".
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: " فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة . فقد تميّز بجمال الصورة والظاهرة وكمال الأخلاق والباطن، كما تميز بإحسانه وإنعامه على أمته.
وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم ، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً.. إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل".
علامة محبته صلى الله عليه وسلم:
إن من أحب شيئاً آثرَ موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حُبه، وكان مُدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الإقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عُسره ويُسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [ آل عمران: 31 ]، وإيثار ما شرعه، والحض عليه وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته.
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل "، ثم قال لي: يا بُنَيَّ وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة ".
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها.
و من علامات محبته صلى الله عليه وسلم:
الإيثار أي إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على النفس كما يدل عليه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَ الإيمَانَ من قَبلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَان بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتَبَعٌ له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومن علامات محبته صلى الله عليه و سلم أيضاً : بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى :{لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليوم الآخر يُوادُّونَ مّنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهم أَو أَبناءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَان وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...} [المجادلة: 22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ}: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، و{أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِدِّيق لابنه عبد الرحمن ،{أَوْ عَشِيرَتُهُم}: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاَ ..".
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حادَّ الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
ومن العلامات كذلك: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومنآذى الله يوشك أن يأخذه "، حديث حسن غريب.
ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم:
من ثمرة محبته عليه الصلاة و السلام، مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة رضي الله عنها: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال يا رسول الله: إنّك لأحبَ إلى من نفسي وإنك لأحب إليَ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك،وإذا ذكرت موتك عرفت إنَك دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى:
{وَمَنْ يُطع الله والرَّسُولَ فأُولَئكَ مع الذين أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحيِنَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيِقاً} [النساء: 69]، مجمع الزوائد وقال الهيثمي: ورواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال:" أنت مع من أحببت"، أخرجه البخاري ومسلم.
فهل من ثواب أرجى من أن يُحشَر المرء مع من أحب خاصة إذا كان المحبوب هو المصطفى صلى الله عليه و سلم!.
قال شهاب الدين الخفاجي رحمه الله تعالى:
وحـق المصطفـى لي فيـه حب إذا مرض الرجاء يكون طباً
ولا أرضى سوى الفردوس مأوى إذا كان الفتى مع من أحبا
صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم:
من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة قلت له: يا أبَتِ لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي، فقال: صدقت يا بني، ولكني أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "، رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: " أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: " ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشدّ أمتي لي حباً قوم يكونون من بعدي ، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني"، أخرجه أحمد بسند حسن.
التأكيد الإلهي على مكانة الرسول ، وأهمية سنة الرسول
الله تعالى هو الذي أوجد التكامل والتلازم بين كتاب الله المنزل ، ونبيه المرسل ، وهو الذي فرض الإيمان بالاثنين معا ، وهو الذي خص رسوله بهذه المرتبة العالية حتى صار الإيمان بالرسول جزءا لا يتجزأ من الإيمان بالله ، والله جلت قدرته هو الذي أبرز أهمية سنة الرسول بفروعها الثلاثة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من دين الإسلام ، وفصلا جوهريا متداخلا تداخلا عضويا مع الشريعة الإلهية المكونة حصرا من كتاب الله وسنة رسوله .
فهو جلت قدرته الذي اختار نبيه للرسالة ، فأعده ، وأهله وعصمه ، وكلفه بالإمامة والولاية ، وأمر المسلمين والمؤمنين أن يأتمروا بأمره وأن ينتهوا بنهيه : ( . . . وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( 1 ) فأمر الرسول كأمر الله ، ونهي الرسول كنهي الله .
وقال تعالى مخاطبا المكلفين : ( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ) ( 2 ) فالإيمان بالله والرسول لا ينفصلان عن
( 1 ) سورة الحشر ، الآية 7 . ( 2 ) سورة الأعراف ، الآية 158 . ( * )
بعضهما ، والله يشهد وكفى بالله شهيدا بأن الرسول مؤمن بالله وبكلماته ، لذلك فإن الله قد أمر عباده باتباع الرسول ( فاتبعوه ) لأنه هو النموذج المتحرك للإنسان المؤمن الكامل ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) ( 1 ) .
ثم إن الله تعالى قد أزال الشك نهائيا وأوجد اليقين عندما بين لعباده حقيقة رسول الله ، وطبيعة ما يصدر عن ذلك الرسول : بقوله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) ( 2 ) وقد ترسخت هذه الحقيقة وشهد الله تعالى بثبوتها ، وإطلاقها يوم أمر الله رسوله بأن يعلن أمام العالمين ، بأنه صلى الله عليه وآله وسلم يتبع ما يوحى إليه من ربه في كل ما يصدر عنه من أقوال أو أفعال أو تقريرات ، وتوثيقا من الله لنبيه وتصديقا تولى الله تعالى بنفسه ومن خلال كتابه المبارك نشر هذا الاعلان النبوي فقال جلت قدرته مخاطبا رسوله : ( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ) ( 3 )
وأعلن الله باسم الرسول قائلا : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ( 4 ) وتصديقا من الله لرسوله ثبت الله هذا الاعلان في كتابه الكريم .
وتأكيدا من الله تعالى لعمق التكامل بين الكتاب المنزل والنبي المرسل وعمق الصلة بين الله ورسوله أمر الله رسوله بأن يعلن للمؤمنين والمسلمين خاصة ولأبناء الجنس البشري عامة هذا الاعلان الذي يعبر بدقة عن مضامينه الوارفة فقال تعالى مخاطبا رسوله : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( 5 ) فاتباع الرسول هو الطريق إلى محبة الله ، وهو الطريق إلى المغفرة .
( 1 ) سورة الأحزاب ، الآية 21 .
( 2 ) سورة النجم ، الآيتان 3 - 4 . ( 3 ) سورة الأعراف ، الآية 203 .
( 4 ) سورة الأحقاف ، الآية 9 . ( 5 ) سورة آل عمران ، الآية 31 . ( * )
وإحكاما لحلقة التكامل والتلازم بين الله ورسوله ، وبين الكتاب المنزل والنبي المرسل ، وبين شريعة الإسلام ونبي الإسلام ، وتمكينا من الله لرسوله للقيام بأعباء الرسالة ، ولسد الطريق أمام أولئك الذين يفرقون بين الله ورسوله ، أعلن الله سبحانه وتعالى قراره ومشيئته بقوله : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا 80 ) ( 1 ) فطاعة الرسول تماما كطاعة الله ، ومعصية الرسول تماما كمعصية الله ، والله جلت قدرته هو الذي قرن الطاعنين معا فقال : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 132 ) ( 2 ) ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ 92 ) ( 3 ) وتكرر هذا الأمر الإلهي مرات متعددة في القرآن الكريم .
لقد حصل اليقين عن طريق العقل والشرع بأن طاعة الله لا تتحقق إلا بطاعة الرسول فمن يعصي الرسول هو عاص لله ، ومن يطع الرسول هو مطيع لله ، والتفريق بين الطاعتين محاولة مكشوفة للتفريق بين الله ورسوله ، والالتفاف على مقاصد الشرعية الإلهية ، وإيجاد ممر للمروق والفساد والخروج من دائرة الشرعية الإلهية .
فالرسول هو حامل الرسالة الإلهية ، وهو وحده الذي يتلقى التوجيهات الإلهية وهو المبلغ عن الله ، والأمين على ما أوحاه الله والعارف بالمقاصد الشرعية ، ثم إنه هو الإمام والقائد والمرجع والولي ، فمن غير الجائز أن يعصى الرسول تحت أي شعار لأن معصية الرسول تعيق حركته وقيامه بأعباء التكاليف الإلهية الملقاة على عاتقه لذلك اقتضت حكمة الله أن يطاع الرسول إطاعة تامة وهذا حق لكل الرسل قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( 4 ) ورسول الله وخاتم النبيين أولى بالطاعة
( 1 ) سورة النساء ، الآية 80 .
( 2 ) سورة آل عمران ، الآية 132 . ( 3 ) سورة المائدة ، الآية 92 .
( 4 ) سورة النساء ، الآية 64 . ( * )
لأن المسؤوليات الملقاة على عاتقه ، أضخم وأكبر من المسؤوليات التي ألقيت على عاتق أي رسول من قبله ، فهو خاتم النبيين ، ومعه الشريعة الإلهية بصورتها النهائية التي ارتضاها الله لعباده أجمعين .
وهذا يعطي قيمة خاصة لكل ما يصدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير ، لأن سنة الرسول بفروعها الثلاثة لازمة من لوازم الإسلام والبيان خاصة وأن الرسول لم يبعث إلى العرب إنما أرسله الله رحمة للعالمين ، وقد انتقل إلى جوار ربه ، ولم يدخل في الإسلام غير العرب ، فمن حق أبناء الجنس البشري أن يطلعوا على سنة رسول البشرية من مصادر موثوقة ولا يتحقق هذا إلا بصيانة السنة ، وكتابتها ونقلها إلى أبناء الجنس البشري نقية بلا زيادة ولا نقصان ، ومن هنا يتبين لنا فداحة الجرم الذي ارتكبه أولئك الذين منعوا رواية وكتابة السنة طوال مائة عام تحت شعار : ( حسبنا كتاب الله ) .
مكانة الرسول في قلوب الصحابة
ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- باب معرفة الله تعالى ومعرفة شرعه وتفصيل تكاليف أوامره ونواهيه لعباده على النحو الذي تترجمه كلمة التوحيد الواجبة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». وكان اتباعه هو باب الفوز بمحبة الله تعالى ورضاه: ]قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[ (آل عمران: 31- 32).
لكن العمل لا يكون طاعة بمجرد الاتباع حتى ينضم إليه الرضا والتسليم: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [(النساء: 65). وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»(4).
وكما جمع الله تعالى بين طاعته وطاعة رسوله، جمع بين محبته تعالى ومحبة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وقرع من يقدم على محبة الله والرسول محبة شيءٍ من الخلق مهما كانت مكانته في نفس العبد: ]قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ (التوبة: 24).
وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»(5).
لهذا رقد علي بن أبي طالب في فراش الرسول ليلة الهجرة، وكان أبو بكر الصديق رفيق هجرته يغاير في جهات مسيره معه خوف مفاجأة العدو، وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة المازنية تترس عنه بجسدها في غزوة أحد.
وحينما هجا بعض مشركي قريش رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه قائلا:
هجوت محمدًا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مطهرًا برا حنيفًا أمين الله شيمته الوفــاء
أتهجوه ولست له بكفءٍ فشركما لخيركمـا الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمدٍ منكم وقاء(6).
هذه أمثلة تبين مكانة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في قلوب أصحابه، وقد عبرت عنها أفعالهم وأقوالهم التي تتعاظم على الحصر، ورسخ القرآن الكريم هذه المكانة بتشريع نسقٍ خاص في التعامل مع الرسول الكريم، على نحو ما نجده في صدر سورة الحجرات: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ[(الحجرات: 1- 3.
ومما يظهر انفعال الصحابة -رضي الله عنهم- بهذه الآيات ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك أنه قال: لما نزلت هذه الآية ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار.
واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرٍو، ما شأن ثابتٍ؟ أشتكى؟» قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهل الجنة»
ونقل القرطبي عن القاضي أبي بكر بن العربي قوله: «حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به»
والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- صاحب الشفاعة، والمجيء إليه من أسباب قبول استغفار المذنب الظالم لنفسه بإذن الله تعالى الذي قال في محكم كتابه: ] وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [ (النساء: 64).
وكل ذلك حكمه جارٍ حياة الرسول وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بلا فصل. وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما أمر بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة المشهود: «أكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي». قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرِمْت؟ يقولون: بليت، فقال: «إن الله -عز وجل- حرم على الأرض أجساد الأنبياء»
وأخرج أبو داود في سننه حديثين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعهما، وأولهما: «ما من أحدٍ يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام». والثاني: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»(10).
ولهذا لا يشعر المسلم المؤمن أن صلته برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- منقطعة؛ بل هي موصولة بالصلاة عليه، واتباع سنته وتحري الاقتداء به في كل ما شرعه الله من الأعمال.
وهكذا يكون النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- حيا على الدوام في قلوب أمته، والصلاة عليه جارية على الدوام من الله تعالى والملائكة والمؤمنين: ] إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ (الأحزاب: 56).
ولقد عظمت هذه الأمة مكانة نبيها، ورعت حرمتها في حياته وبعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم. واجتمعت كلمتها على أن النيل من جنابها كفر بواح يعاقب الله عليه، وتعدٍّ سافر يجب على الأمة دفعه بكل إمكاناتها المتاحة في إطار ما شرع الله؛ مصداق قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [(الأحزاب: 57).
هوس الإساءة
ونحن نعيش زمانا كثرت فيه شارات التعدي على الإسلام ورسوله وتشريعاته ومقدسات أمته، التي غدت من أكثر الأمم شتاتا على كثرة أسباب توحدها لو تيقظ أبناؤها، وتمسكوا بحقيقة دينهم، ونصروا أهدافه السامية، وأتاحوا لتشريعاته أن تحكم، ولسنة نبيهم أن تسود بينهم سيادتها في أسلافهم الذين قادوا عالمهم بالإسلام إلى سبيل النور، وأضاءوا له طريق الحضارة التي تحفظ الإنسانية، وتضمن قيم العدالة بين الناس جميعا.
ومع ذلك فالعالم الإسلامي الآن ثائر غضبا على الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، التي نشرتها الصحيفة الدانماركية (جيلاندز بوستن - Jyllands-Posten)، قبل أربعة شهور يوم الجمعة 26 شعبان 1426هـ - 30 سبتمبر 2005م. ثم أعادت نشرها مجلة (مغازينت) النرويجية في العاشر من شهر يناير 2006م باسم حرية التعبير، غير عابئة بما سبق هذا التاريخ من تظاهرات آلاف المسلمين واعتراضات عدد من سفراء الدول الإسلامية في الدانمارك في غضون شهر أكتوبر 2005م، ولا بموقف وزراء خارجية الدول العربية في التاسع والعشرين من ديسمبر.
ثم طفق عدد من الصحف الغربية يعيد نشر الرسوم مستنكرا موقف المسلمين من حرية التعبير التي ينبغي أن يمهد لها الطريق في دول العالم الإسلامي الذي يرزح بدونها في بحار التخلف؛ لتكون طوق نجاته. فهل نسأل أنفسنا: مم تكون النجاة؟!
والحق أنني لم أستغرب هوس الصحف الغربية بإعادة نشر تلك الرسوم الساخرة من نبي الإسلام، ولا سعي القائمين عليها في سبيل ترويض المسلمين وقيادتهم إلى هاوية العلمانية؛ لكن العجب كل العجب من جرأة صحف تصدر في بلاد إسلامية وعربية على إعادة نشر بعض تلك الرسوم!.
وثمة أمر آخر لكنه لا يدعو إلى العجب بل إلى الحيرة، وهو سر اختصاص الرسوم الدانماركية بذلك الموقف الحكومي والجماهيري العام، برغم أن هذه الإساءة الأخيرة ليست الأولى ولا الأشد فيما يصيب نبي الإسلام وشريعته من صحافة الغرب وساسته ورجال الدين المسيحي المتعصبين؛ بل من العسكر الذين جعلوا حربهم ضد الإسلام والمسلمين باسم مقاومة الإرهاب حربا مقدسة.
وأيا ما كان السبب فقد طفح الكيل وأدرك السيل الذبى، وحان للمسلمين أن يلموا شعثهم، ويتجاوزوا محنة افتراقهم وانشغالهم عن هويتهم الإسلامية الواحدة. ولن يتم ذلك إلا بوقفة مع النفس ومراجعة دقيقة لمجالات التقصير وأسبابه، دون أن نجعل من تجاوزات الآخرين وتآمرهم السبب الوحيد لما نحن فيه الآن. قال العقاد:
أنصفت مظلومًا فأنصف ظالمًا في ذلة المظلوم عذر الظالم
ويمكننا أن نقول: إن المظلوم الذي لا يسعى إلى حفظ حقه يظلم نفسه مرتين؛ في ترك حقه، وفي إعانة الظالم على نفسه. والقوة لا تعني الاعتداء على المخالف؛ لكنها تحفظ من اعتداء الظالم الجائر، وليس القوي من يأخذ ما ليس له، وإنما القوي الذي يقدر على حفظ ما هو له.
ونعم يجب علينا أن ندافع عن عقيدتنا، وعن محبتنا لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من الواجب أيضا أن تكون منافع الدفاع أكثر من الأضرار، ومن اللازم أن تكون لذلك الدفاع خطته، لا أن تكون خطواته عمياء عشوائية غير مشروعة تغلب العاطفة فيها عقل الملتزم بالدين.
ولقد كان في المشركين من هجا الرسول الكريم وأساء إليه بالباطل؛ فكيف كان الرد والدفاع عن النبي. ذكر ابن عبد البر أن الذين كانوا يهجون رسول الله من مشركي قريش: عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب.
فقال قائل لعلي بن أبى طالب: القوم الذين يهجوننا؟ فقال: إن أذن رسول الله فعلت. فقالوا: يا رسول الله، ائذن له. فقال رسول الله: إن عليا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو ليس في ذلك هنالك. ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها. وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء. وقال رسول الله: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال له: إيت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يمضى إلى أبي بكر ليقف على أنسابهم؛ فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة، واذكر فلانة وفلانة. فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة (11).
وهكذا نجد عليا الفارس الشاعر الفصيح لم يتعجل الجواب، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستبعد الفارس المنشغل بالحكمة والعلم عن مهمة تتبع مناقص المشركين ومعارضة قولهم في الرسول الكريم، وحينما انتدب شاعره حسان بن ثابت لم يكتف بكفائته الشعرية الصالحة لهذا المقام، وإنما أحاله على أبي بكر العالم بأنساب القوم ومثالبهم؛ لكي يتمكن من إصابتهم دون أن يمس الرسول الكريم.
ونحن اليوم يلزمنا أن ندافع عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وننتصف له ممن اعتدى على مكانته؛ لكن دون أن نمس شخصية الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بسوء، ودون أن ننسب إلى دعوته السمحة ما هي منه براء.
إننا بحاجة إلى الرد الفوري، كما أننا بحاجة إلى ما يحفظنا من تكرار هذا السفه في المستقبل. وإذا كانت المقاطعة الاقتصادية الشعبية هي الحل المطروح؛ فهل هي مع الدانمارك ومنتجاتها الغذائية فقط؟! وإذا كان الحوار هو الحل الذي يدعو له ساسة الغرب، فهل يتضمن حوار الأديان أو حوار الثقافات الإساءة إلى عقائد المخالفين، والسخرية من مرتكزات ثقافتهم؟! ويبقى بعد ذلك محاكمة النفس، والثورة الإصلاحية لتقصيرها؛ حتى تبرأ من ضعفها الذي يغري الجائرين ويجعلها لقمة سائغة في أفواههم.
________________________________________
** الأستاذ بكلية أصول الدين- الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد.
(1) عن الإمام محمد بن جرير: تاريخ الطبري- 2/ 79، ط1، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان 1407هـ.
(2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان- باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. وأخرجه مسلم في صحيحه واللفظ له: كتاب الإيمان- باب وجوب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه منفردا: كتاب الأيمان والنذور- باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات. وقد صححه النووي في آخر الأربعين».. فتح الباري بشرح صحيح البخاري- 13/ 289، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ومحب الدين الخطيب، ط دار المعرفة- بيروت، لبنان 1379هـ.
(5) متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان- باب حلاوة الإيمان. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه واللفظ له: كتاب الإيمان- باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.
(6) انظر الإمام ابن عبد البر: الاستيعاب- 1/ 344، 345. تحقيق علي محمد البجاوي، ط1، دار الجيل- بيروت، لبنان 1412هـ.
(7) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان- باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله.
(
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن- 16/ 307، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، ط2، دار الشعب- القاهرة، مصر 1372هـ.
(9) أخرجه الإمام أحمد في مسنده- 4/ 8. وأخرجه أبو داود في سننه- 1/ 275، 2/ 88. وأخرجه النسائي في سننه (المجتبى)- 3/ 91. وابن ماجه- 1/ 345، 524. وقال الحافظ ابن كثير بعد أن نقل الحديث من مسند الإمام أحمد، وعزاه أيضا إلى أبي داود والنسائي وابن ماجه: «وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والنووي في الأذكار».. تفسير القرآن العظيم- 3/ 515، ط دار الفكر- بيروت، لبنان 1401هـ.
(10) أخرجهما أبو داود في سننه- 2/ 218. ونقلهما الحافظ ابن كثير، وذكر تفرد أبي داود بروايتهما- يعني تفرده بين الكتب الستة-، وذكر أن النووي صحح الحديثين في الأذكار، وأن الثاني منهما أخرجه الإمام أحمد في مسنده.. تفسير القرآن العظيم- 3/ 515، 516. وقد أورد الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث، وله كلام نفيس في خصوصية حياة الأنبياء في قبورهم بدلالة الرواية، والأولوية في العقل المعتمد على الدلالة القرآنية المثبتة لخصوصية حياة الشهداء عند ربهم؛ فراجعه: فتح الباري- 6/ 488.
(11) ابن عبد البر: الاستيعاب- 1/ 341، 342.
مكانة سنة الرسول في دين الإسلام
معنى سنة الرسول
تعني سنة الرسول: كل ما صدر عن الرسول بالذات من قول، أو فعل أو تقرير، إطلاقا. فأقوال الرسول هي السنة اللفظية أو القولية، وتعرف بحديث النبي، وأفعال الرسول هي سيرته أو سنته العملية، وتشمل سنة الرسول أيضا تقريره، ومعنى التقرير أن يرى الرسول عملا من مسلم أو أكثر، فلا ينهى عنه، فيكون سكوت الرسول بهذه الحالة إقرارا منه بصحة ذلك الفعل. ولا خلاف بين اثنين من أتباع الملة حول مضمون وحدود هذا المعنى.
التلازم والتكامل بين القرآن الكريم وسنة الرسول
التلازم والتكامل بين القرآن وسنة الرسول ثمرة طبيعة لحالتي التلازم والتكامل بين القرآن الكريم وبين الرسول بالذات، فمن غير المتصور عقلا وشرعا بأن ينزل الله تعالى كتابا سماويا أو تعليمات إلهية إلا على رسول، أو أن يرسل رسالة لبني البشر بدون رسول، فالكتاب والرسول وجهان متكاملان لأمر واحد، وإذا أردنا أن نلخص دين الإسلام تلخيصا دقيقا، فلا نعدو القول بأنه يتكون من مقطعين رئيسيين: أولهما كتاب الله المنزل، وثانيهما نبي الله المرسل، فلا غنى للكتاب عن النبي، ولا غنى للنبي عن الكتاب، فالكتاب لا يفهم فهما يقينيا بدون نبي، والنبي لا برهان له ولا حجة إن لم يكن معه كتاب ضاق مضمونه أو اتسع. ثم إن الإيمان والإسلام لا يتحققان إلا بالاثنين معا، كتاب الله المنزل، ونبيه المرسل، فالإيمان.
بأحدهما لا يغني عن الإيمان بالآخر، وقد أخذ التكامل والتلازم بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل، بعدا خاصا في دين الإسلام، لأن رسول الإسلام هو خاتم النبيين، فلا نبي بعده، ولأن القرآن هو آخر الكتب السماوية، وعلاوة على أن القرآن معجزة إلهية بيانية أساسها الكلمة الطيبة الصادقة، فإنه هو الدستور الإلهي الذي شخص الأصول والمبادئ والمقدمات الأساسية للشريعة الإلهية النهائية التي ارتضاها الله تعالى للجنس البشري طوال عصور التكليف الممتدة من زمن خاتم النبيين حتى قيام الساعة، لقد أجمل هذا القرآن كل ما يتغير، وفصل ما لا يتغير، وأشار إشارات إلى أحكام وفرائض وأخبار وضروريات، ومصطلحات دون تفصيل، وعهد الله إلى رسوله ببيانها وتفصيلها على ضوء توجيهات الوحي الإلهي، فمصطلحات الصلاة مثلا وهي عماد الدين، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، ونظام الحكم... الخ كلها موجودة في القرآن الكريم، ولكن دون تفصيل لأن بيانها وتفصيلها متروك لسنة الرسول. ثم إن القرآن الكريم كمعجزة بيانية ذو وجوه متعددة، تؤدي بالضرورة إلى تصورات وأفهام متعددة، فتأتي سنة لتحدد الوجه والفهم الذي يتلاءم مع المقصود الإلهي.
إن المهمة الأساسية للرسول الأعظم ولسنته المطهرة منصبة بالدرجة الأولى والأخيرة على بيان ما أنزل الله بيانا قائما على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين، لأن الرسول الأعظم